أجندة و متابعاتأنشطة الفروع
أخر الأخبار

كلمة رئيس العصبة في افتتاح ملتقى الفيلم القصير الحقوقي

الملتقى، في دورته الثانية، لا يحتفي فقط بالإبداع، بل يحتفي بالمثابرة. يحتفي بالأمل الذي لم يخفت، وبالعدسة التي لم تغمضها الرهبة، وبالقلب الذي لم يساوم على قضيته

كلمة رئيس العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان
في افتتاح الملتقى الوطني الثاني للفيلم القصير الحقوقي
تحت شعار: “الفيلم القصير الحقوقي: منصة للترافع والتغيير والذاكرة”
من 12 إلى 14 يونيو 2025
أيها السيدات والسادة،
أيتها الضمائر النبيلة،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نقف اليوم على أعتاب لحظة فارقة، لحظة تمتزج فيها صورة الفن بلون الكرامة، ويتقاطع فيها بوح العدسة مع آهات المقهورين، وتلتقي فيها العتمة القاسية لحالات الانتهاك مع نور الحقيقة المتسلل من بين ثنايا الإبداع الإنساني، تحت سقف هذا الملتقى الوطني الثاني للفيلم القصير الحقوقي، الذي اختار أن يكون “منصة للترافع والتغيير والذاكرة”.
نجتمع اليوم، ونحن نحمل في أعماقنا همّ الوطن والإنسان، في زمن تتعالى فيه أصوات الطغيان، وتتساقط فيه الأقنعة عن وجوه الاستبداد، بينما تبقى العدالة، كما وصفها الفيلسوف إيمانويل كانط، “الشرط الأول للسلام”. وما الفيلم القصير الحقوقي إلا وعد بهذا السلام المأمول، حين يصير الفن صوتاً لمن لا صوت له، ومرآة لواقع أريد له أن يظل مطمورًا خلف ستائر النسيان.
أيها الرائعون أيتها الرائعات ،
ليس اعتباطاً أن اختار المكتب المركزي للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان مدينة زاكورة لاحتضان فعاليات الملتقى الوطني الثاني للفيلم القصير الحقوقي، بل هو اختيار له دلالاته الرمزية وعمقه الجغرافي والإنساني. فزاكورة، هذه المدينة المنسية في خطابات المركز، الحاضرة بقوة في وجدان الوطن، هي مرآة لكثير من القضايا الحقوقية المسكوت عنها في مغرب الهامش: من العطش المزمن إلى التهميش البنيوي، ومن نضالات شبابها إلى نبض مثقفيها وفنانيها. إننا نؤمن أن من قلب واحة درعة  تنبع أجمل صور المقاومة الثقافية، وأن الفن حين يتكئ على القيم الحقوقية، يجد في زاكورة فضاء خصباً ليصوغ خطاباً سينمائياً صادقاً، نابعاً من الأرض وإليها يعود.
أيها الحضور الكريم،
في هذا الملتقى، لا نكرّم فقط الكاميرا، بل نكرّم الشجاعة… شجاعة التوثيق، شجاعة الحكي، وشجاعة الوقوف في وجه السائد الظالم. ففي كل فيلم قصير يعرض هنا، هناك أنين عاملات فلاحة، وصرخة طفلة أوقفتها أصفاد التسرب المدرسي، ودمعة أم لم تجد دواء لفلذة كبدها، وآثار أقدام على الطريق نحو رفح المكلومة… حيث العبور حلم، والنجاة من نار الفوسفور الأبيض مغامرة لا تشبه إلا أساطير الخلاص القديمة.
لقد آمنت العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، منذ تأسيسها، أن الثقافة والفن هما جناحان أساسيان لأي نضال حقوقي عميق وفاعل. فالكلمات وحدها لا تكفي، والنصوص القانونية وحدها لا تردع، ما لم تتحول إلى وعي جمعي، إلى رؤية حسية، إلى صورة تهز القلوب. ومن هنا، كان انخراطنا في هذه التظاهرة الفنية الحقوقية نابعًا من إيمان راسخ بأن السينما، وخاصة الفيلم القصير، ليست ترفًا بل سلاحًا للمساءلة، ومنصة للتأريخ، ومحرّكًا للتغيير.
أيتها السيدات، أيها السادة،
من المؤلم أن نستعرض واقعنا الحقوقي ونحن نرى المسنين المهملين في زوايا النسيان، والنساء المعنفات، والأطفال المُستغَلّين في سوق العمل دون رادع، والمهاجرين يتعرضون لأبشع صنوف التمييز، والشباب الذين يختارون الموت في قوارب البحر بدلًا من حياة القهر والتهميش. كم من لقطة يمكن أن توثق هذه المآسي؟ وكم من كاميرا تجرؤ على اقتحام صمت المؤسسات؟
في هذا السياق، لا بد أن نذكر بالفخر والإجلال، أن هذا الملتقى لا يُعقد في معزل عن همّ الأمة، بل هو صدى من صدى فلسطين. تلك الجرح الذي لا يندمل، والنزيف المفتوح على شاشات العالم، دون أن يوقظ ضمائر المتواطئين. إن القضية الفلسطينية ليست فقط قضية أرض مسلوبة، بل هي قضية إنسانية، رمزية، أخلاقية، تمتحن صمودنا ووفاءنا لقيم الحق.
إننا، في العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، نجدد التزامنا بمناصرة الشعب الفلسطيني، وندعو جميع الفنانين والمبدعين إلى أن تكون فلسطين حاضرة في كل سيناريو، وكل مشهد، وكل نص سينمائي. فالفن الحق لا يتورع عن تسمية الجلاد جلادًا، ولا يخاف أن يفضح القتلة ولو لبسوا عباءات الشرعية الزائفة.
أيها الإخوة والأخوات،
إن شعار هذا الملتقى ليس اعتباطيًا. فحين نقول إن الفيلم القصير الحقوقي هو “منصة للترافع”، فإننا نؤمن بأنه يمكنه أن يطرح قضايا الظلم في لغة تصلح للتداول، لغة تتجاوز الأرقام الجافة والتقارير المرقمة. وحين نقول إنه “منصة للتغيير”، فذاك لأننا نؤمن أن الصورة الصادقة قادرة على إحداث ارتجاج في بنية الوعي، وكسر رتابة اللامبالاة. أما حين نصفه بأنه “منصة للذاكرة”، فلأن الذاكرة ليست فقط أرشيفًا، بل هي شرط لبناء المستقبل، كما قال جورج سانتايانا: “من لا يتذكر الماضي محكوم عليه أن يعيشه من جديد”.
في كل فيلم يُعرض هنا، هناك محكمة شعبية، محكمة تتكون من وجدان الجمهور، من ضمير المتلقي، من شهقة الحقيقة حين تظهر فجأة على الشاشة.
أيها الحضور العزيز،
إننا لا ننكر أن هناك من يرى في الفن تهديدًا. لأن الفن عندما يُحرّر من القيود، يصبح فضاءً للكشف، للكشف عن الفساد، عن المحسوبية، عن القمع، عن تزوير الوعي. لذلك، فإن التحدي أمامنا ليس فقط أن نصنع أفلامًا، بل أن نصنع الوعي الذي يحمي هذه الأفلام من المصادرة، ويصونها من الاغتيال الرمزي.
ونحن إذ نحيي كافة المشاركين في هذا الملتقى – من مخرجين، وممثلين، وكتاب سيناريو، ونقاد – فإننا ندعوهم أن يحملوا مشعل الحقيقة، لا مجد الأضواء الزائفة. وأن يتذكروا أن السينما، كما قال جان-لوك غودار، ليست فقط “تصوير الحقيقة”، بل “الحقيقة المصورة”.
أيها السيدات والسادة،
إن هذا الملتقى، في دورته الثانية، لا يحتفي فقط بالإبداع، بل يحتفي بالمثابرة. يحتفي بالأمل الذي لم يخفت، وبالعدسة التي لم تغمضها الرهبة، وبالقلب الذي لم يساوم على قضيته. كما أنه يأتي ليؤكد أن العمل الحقوقي لا يجب أن يُختزل في البلاغات أو المذكرات أو المرافعات القضائية، بل يجب أن ينفتح على كل الأشكال التعبيرية التي تمكّن من الوصول إلى الناس، إلى العمق، إلى الجرح.
وقبل أن أختم، ولا يفوتنا في هذا المقام، أن نتقدم بجزيل الشكر والتقدير للسلطات المحلية والإقليمية بمدينة زاكورة، التي واكبت الملتقى ودعمت تنظيمه بروح من التعاون والمسؤولية. كما نعبر عن امتناننا العميق للمكتب الإقليمي للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان بزاكورة، الذي أبان عن علو كعبه في التنظيم والمبادرة والانخراط، وعلى رأسه الأخ المناضل حمو زراح، عضو المكتب المركزي للعصبة، الذي نخصه بتحية تقدير لمثابرته، والتزامه الحقوقي الهادئ والعميق، وإيمانه بأن الفن والعدالة لا يفترقان.
لا بد كذلك أن أوجه نداءً إلى المسؤولين، وإلى المؤسسات المعنية، الذين مازلوا لا يعيرون اهتمام لمثل هذه الأنشطة ، أن يحتضنوا هذا النوع من المبادرات، لا أن يتجاهلوها. لأن من يكمّم فم الصورة، او يتجاهل وميضها إنما يخاف أن تنعكس عليه مرآة الحقيقة.
أيها الحضور الموقر،
في الختام، أقول لكم كما قال الشاعر محمود درويش:
“نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”…
والفيلم القصير الحقوقي، هو أحد سبلنا نحو الحياة، حياة تستحق أن تُعاش بكرامة.
فلتكن هذه الأيام الثلاثة، أيامًا من النبش في الذاكرة، ومن الترافع الفني، ومن صناعة أمل جديد، بعد أن فقد الناس الثقة في تقارير لا تُقرأ، وخطب لا تُسمع، ووعود لا تُنجز.
شكرا لكم جميعا.
وعاشت العدالة، وعاش الفن الحر، وعاشت العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى